المقررات المتعارفة لدراسة الفلسفة في النجف الاشرف

رئيس التحريرمنذ 39 دقيقةآخر تحديث :

 

النجف اليوم/ كتب .د. عبد الجبار الرفاعي

تتمحور الدراسةُ والتدريس على الفقه وأصول الفقه في مدرسة النجف، وتسبق ذلك مقدماتٌ في علوم اللغة التراثية، والمنطق الأرسطي، وعلم الكلام القديم. ويكتسب الأستاذ مقامَه الديني والعلمي من تمرسه ومهارته في الفقه الاستدلالي. الفقه هو الذي يمهد الطريقَ للمرجعية الدينية، ويمكن أن يجعله أحدَ من يشغلون هذا الموقع، إن توفرت المتطلباتُ الأخرى داخل مدرسة النجف وخارجها لصناعة مرجعيته.

الفلسفة ليست أساسيةً في دراسة مدرسة النجف، يدرسها بعضُ الطلاب اختيارًا حتى اليوم، من دون أن تكون مقرَّرًا أساسيًّا، وإن اتسعت دراستُها في النصف الثاني من القرن العشرين، وأصبح مَن يدرسها ليس منبوذًا كما كان بالأمس، خاصة بعد تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

ومع ذلك ما اختفت دراستُها وتدريسُها في مدرسة النجف، في أشد مراحل مناهضة أكثر الفقهاء للفلسفة. لا نرى مثلَ هذا الحضور المتواصل في معاهد التعليم الديني التقليدية خارج مدرسة النجف، فلا نجد فيها تدريسًا منهجيًّا منتظمًا لآثار مدرسة ملا صدرا الشيرازي الفلسفية، وأتباعِها مثل: ملا هادي السبزواري، ومحمد حسين الطباطبائي، كما في مدرسة النجف.

يضاف إلى ذلك، أن معظمَ أساتذة وتلامذة الفلسفة في مدرسة النجف يُعنَون بالعرفان عناية خاصة، فيعكفون على دراسة بعض المؤلفات الأساسية في هذا الحقل، مثل كتاب “فصوص الحكم” لمحيي الدين بن عربي ت 638 هـ، و”التمهيد في شرح قواعد التوحيد” لــصائن الدين علي بن محمد التركة الإصفهاني ت 835 هـ، و”مصباح الأنس بين المعقول والمشهود” لمحمد بن حمزة الفناري ت 834 هـ. وربما يمكث هؤلاء سنواتٍ عديدةً لتفسير وفهم أفكار ونظريات الحكماء والعرفاء، المشتمِلة عليها هذه المؤلفات، والمحكية غالباً بعبارة مكثفة، دقيقة، مبهمة، وربما ملغزة، يعاني ذوو الاختصاص معاناة كبيرة في فهمها وتحليل مدلولاتها، ويستنزفون جهدًا عقليًّا هائلًا لسنوات بغية استيعابها.

الدرسُ الفلسفي في مدرسة النجف مرهق لا يطيقه إلا الصّبور، يمضي التلميذُ الذي يدرس الفلسفةَ سنواتٍ طويلةً في دراسة وتدريس متونِ الفلسفة، المدونةِ بلغة اصطلاحية مكثّفة شديدة الاختزال، وأحياناً غامضة ومبهَمة وملتبسة ومركبة. بعد أن يدرسَ التلميذُ المنطقَ ينتقل لدراسة “منظومةِ” السبزواري، أو “بدايةِ الحكمة” و”نهاية الحكمة” للطباطبائي، ثم “الأسفارِ الأربعة” لملا صدرا الشيرازي، يلبث بعضُ التلامذة في الأسفار فقط 10- 15سنة، لو حاول أن يدرسَها بتمامها. ومن أراد أن يواصلَ دراسةَ العرفان فيبدأ في دراسة “تمهيد القواعد” لابن تركه لمدة عامين، ثم “فصوص الحكم” لابن عربي على الأقل خمس سنوات، ثم “مصباح الأنس” لمحمد بن حمزة الفناري لسبع سنوات.

في استقراءٍ لنمط الحياة العقلية والروحية لأساتذة الفلسفة في مدرسة النجف رأيتُ أن تفاعلَ الفلسفة والعرفان لم يقتصر على البحث والكتابة والتدريس، بل كان أكثرُ مَن ينخرط في تعلّم وتعليم الفلسفة في مدرسة النجف عارفًا زاهدًا في حياته الخاصة. وهذا الزهد ينعكس ‏على مؤلفات وتعليقات وشروح الفلاسفة وأساتذة الفلسفة في مدرسة النجف، فبعضُها يتداخل فيها التفكيرُ العقلي والحدسُ العرفاني.

تميزت مدرسة النجف بتوفرها على أجيال من أساتذة الفلسفة والعرفان الأكفاء في كل حقبة زمنية، ولم يكن محمد حسين الطباطبائي إلا واحدًا من أعلامهم في القرن الماضي. وأظن ليس هناك أساتذة الفلسفة في عالمنا اليوم، تراكمت لديهم خبرةٌ استثنائية في شرح وتوضيح وتحليل النصوص الفلسفية والعرفانية في التراث، كخبرة هؤلاء الأساتذة. وهي خبرة راكمتْها طبيعةُ المناخات التعليمية والتربوية الخاصة في دراسة وتدريس المتون القديمة لعلوم الدين عامة، والفلسفة منها خاصة، وكذلك طريقةُ تدريس هذه المتون، التي تقوم على استجلاءِ مدلولاتها، والتفنّنِ في تصوير مفاهيمها، باعتماد تفكيكها إلى جمل وعبارات، وتحليلِ تلك العبارات واستنطاق كلماتها. يرابط دارسو الفلسفة عدةَ سنوات في دراسةِ كتاب واحد، مثل “الأسفار الأربعة” واستيعابِ مسائله، واستظهارِ وحفظِ ما هو مهمٌّ منها، ولعل الأرجوزةَ المعروفة بـ “المنظومة” لملا هادي السبزواري في المنطق والحكمة، من المتون المتعارَف استظهارُها لدى بعض تلامذة الفلسفة.

إنّ استمرار حضور دراسة الفلسفة في مدرسة النجف أسهم في تحقيق جملة مكتسبات، ليس أقلّها الكشفُ عن شيءٍ من إضافاتِ الفلاسفة الإسلاميين وتطويرِهم للفلسفة اليونانية، وما أنجزوه من صياغة نظرياتٍ ومقولات ومفاهيم فلسفية عبّرت عن إضافة معرفية للتراث الفلسفي الإنساني. حاول الدرسُ الفلسفي في مدرسة النجف تقديمَ إجابات فلسفية عن بعض الأسئلة الميتافيزيقية المتنوعة. وكشف عن مكاسب الفلسفة في الإسلام، فقد لاحظ محمد حسين الطباطبائي: أن عدد المسائل الفلسفية التي ورثتها الفلسفةُ الإسلامية من مدرستَي أثينا والاسكندرية لا تتجاوز مئتي مسألة، في حين بلغ رصيدُ الفلسفة الإسلامية في مدرستها الأخيرة “الحكمة المتعالية” لملا صدرا الشيرازي ما يناهز سبعمائة مسألة. وهذا التفاوتُ الذي يبلغ خمسمائةَ مسألة، إن كان موثقاً دقيقًا، ذو دلالة مهمة في تقويم المنجز الفلسفي في الحضارة الإسلامية، ولا سيما إذا لحظنا أن التطوير والتوضيح، حسب الطباطبائي، امتدّ ليشمل حتى المئتي مسألة الموروثة، فلم تبقَ هذه المسائلُ على الصورة التي وصلت عليها للمسلمين، بل أُعيد بناءُ معظمها في ضوء سياقات الفلسفة في الإسلام، وبينما اتشح سواها برداءٍ آخر، انحصر ما بقي على صورته القديمة منها في مسائل محدودة. كما أفصح الطباطبائي عن أن المسائل الفلسفية التي جاءت من الأقدمين، اتسمت بانفصالـها الواحدة عن الأخرى من دون أن يكون ثمةَ رابطٌ بينها، فضلًا عن أنها وُجِّهت توجيهًا فلسفيًّا غير منظم، في حين اكتسبت هذه المسائلُ في الدور الأخير للفلسفة الإسلامية نظامًا رياضيًّا، على نحوٍ ارتبطت فيه فيما بينها، وترتبت بانتظام. اللافت أن الطباطبائي لم يبرهن على هذا المدَّعَى، إذ أشار إلى قليلٍ من هذه المسائل، ولم يتحدث عن الخمسمائة مسألة التي أضافها فلاسفةُ الإسلام. كما لا نعثر في آثاره على دراساتٍ تؤرخ لنشأة وتطور المسائل الفلسفية، ولم يقدم بحثًا يعززه بالأدلة المستقاة من الفلسفة اليونانية ومدرسة الاسكندرية يكشف عن المسائل الجديدة، ولم نقرأ في مؤلفاته ما يشير إلى ولادتها، ويكشف عن جذورها وسياق تطورها، لنتأكد من هذا المدَّعَى..

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر/ جريدة الصباح

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

الاخبار العاجلة