لا أصعب من ان تكون ذاكرة المكان مترعة بالدم والصراخ والأنين، ولا اكثر استفزازا للمشاعر حين يكون الخوف مرتبطا بكلمة (نهاية)،فكيف إذا ما كان هذا الاسم لـ (معتقل) رهيب في نظام قام على الدم والقتل والتعذيب. بخطى وئيدة ذهبت الى هذا المكان الذي كان يسمى حتى آخر عهد النظام السابق 2003 بـ (مجمع المخابرات العراقية)، ومن الغريب ان السير على رصيفه بحد ذاته يقبض النفس، كأن هناك عيونا كثيرة تنظر وتراقب، وأيد طويلة تمتد خارج أسواره لتلقي القبض على كل مار وعابر، احساس عفوي بالرعب يزداد كلما تم استذكار تأريخ ما جرى على هذه المساحة من الأرض،
ففيها يسدل ستار (النهاية) على حياة الناس، حيث تتراءى صور احواض التيزاب والكلاب الشرسة وصرير المثرمة ولعلعة الرصاص وآلات تقطيع الأطراف واصوات العذابات، فيما تمتليء المخيلة بلون الدم الأحمر الذي يضج هاربا الى خارج الغرف باحثا عن مجرى يصب نفسه فيه. جغرافية القصر يقع (قصر النهاية) غربي محافظة بغداد، مقابل منطقة الحارثية ضمن حي المنصور ما بين معرض بغداد الدولي وبناية الدفاع المدني حاليا، على نهر الخر،
حيث كانت المنطقة عبارة عن مساحات فارغة، بل انها آخر حدود بغداد آنذاك. وهي الآن آخر حدود منطقة الكرخ، وليس هنالك بالقرب منه الا قصر يسمى (الزهور) وقصر آخر يعود الى عبد الجبار محمود زوج الأميرة راجحة بنت الملك فيصل الأول سمي بقصر (الاميرات) في منطقة المنصور. على هذا المساحة من الأرض،
أقيم عام 1937 قصر ملكي حمل اسم (قصر الرحاب) بني على نفقة العائلة المالكة، حيث تم انجازه تحت اشراف الوصي على العرش الأمير عبد الاله، وجاءت تسمية هذا القصر نسبة الى قرية اسمها (الرحاب) كانت مقر سكن العائلة الهاشمية في (الحجاز)، وصمم هذا القصر واشرف على بنائه مهندس معماري مصري، ويتكون من عدة غرف لا تتجاوز في مجموعها سبع غرف، وهي غرفة استراحة وغرفة طعام وغرفة مكتبة مع غرفة صغيرة في الممر وغرفتين للضيوف. ثم بني طابق ثان له اشتمل على غرفة استراحة وغرفة للنوم وغرفتين للضيوف. يذكر المطلعون ان العائلة المالكة، بعد اكماله، طلبت من بلدية بغداد تبليط أجزاء من القصر،
لكن طلبها جوبه بالرفض كون القصر ملكا خاصا وليس حكوميا!، فبلطه الأمير عبد الاله على نفقة العائلة الخاصة. قصر النهاية لكن القصر تغير اسمه بعد اعلان الحكم الجمهوري في 14 تموز 1958 وصار يعرف بـ (قصر النهاية) لانه شهد نهاية الحكم الملكي الذي قتل فيه الملك فيصل الثاني وخاله الأمير عبد الاله وجدته الملكة نفيسة وبعض الأميرات، وتعرض القصر في ذلك اليوم الى اطلاق نار عنيف وضربات بمدفع الهاون أدت الى حرقه ودمار بعض اجزائه، ثم تعرض الى عمليات نهب واسعة، وفيما يقول بعضهم ان القصر بقي مهجورا طوال حكم الزعيم عبد الكريم قاسم،
يؤكد آخرون ان القصر تم تحويله فيما بعد الى مستشفى عسكري للأمراض الصدرية ومن ثم دائرة حكومية عرفت بمصلحة المصايف والسياحة. سجن رهيب بعد ان تم محو اسم (قصر الرحاب) عام 1958، جرى تحويل (قصر النهاية) الى (سجن رهيب) للتعذيب بعد انقلاب 8 شباط 1963 وسيطرة حزب البعث، فكان ساحة لممارسة ابشع الجرائم ويؤكد المطلعون على تأريخ تلك الحقبة،
ان المعتقل هذا، جرت فيه تحقيقات واغتيالات طالت العناصر الوطنية، خاصة من مؤيدي الزعيم عبد الكريم قاسم، وتشير الوقائع الى ان الأشهر العشرة التي هي عمر الحكم البعثي الأول للعراق (شباط 1963 – تشرين الثاني 1963) نال المعتقل سمعة رهيبة كمسلخ بشري للمعارضين اليساريين،
واشتهر من جلاديه منذ تلك الحقبة ناظم كزار وعمار علوش وخالد طبرة وغيرهم من أعتى واشهر المجرمين المتمرسين في القتل والتعذيب، ولكن بعد اسقاط حكومة البعث في 16 تشرين الثاني 1963 من قبل عبد السلام عارف، الحق جزء كبير من القصر بمعرض بغداد الدولي كاستثمار سياحي يرتبط بمصلحة السياحة والمعارض العراقية. لكن اغلاق قصر النهاية لم يدم طويلا، فقد رجع البعثيون الى السلطة بفضل نجاح انقلابهم العسكري الجديد في 17 تموز 1968 بقيادة احمد حسن البكر وصدام حسين،
ومن هنا بدأت صفحة جديدة رهيبة من صفحات السجن البشعة يتبارى فيه المجرمون بتجسيد ابشع طرق التعذيب والقسوة. أقسام السجن وحسب السجين السابق في قصر النهاية عبد الاله النصراوي، أمين عام الحركة الاشتراكية العربية، فان ادارة قصر النهاية كانت تخضع لجهاز الأمن القومي السري الذي أشرف عليه صدام حسين نائب أمين سر قيادة الحزب الحاكم ونائب رئيس مجلس قيادة الثورة آنذاك.
ويقوم بالاشراف المباشر ناظم كزار عضو قيادة فرع بغداد ويتشكل عدد زبانية قصر النهاية من حوالي 75 شخصا غالبيتهم من المجرمين وأصحاب السوابق، وتوجد هيئتان للتحقيق، الأولى برئاسة علي رضا، والثانية برئاسة حسن المطيري. ويتكون السجن من مجموعة أقسام،
الأول: البناية القديمة وتحتلها ادارة السجن، والثاني: قاطع صغير يتكون من سبعة أقبية (زنزانات) صغيرة انفرادية فضلا عن غرفة التعذيب الرئيسة وتحتوي على أدوات التعذيب، وتوجد فيها الآلات الكهربائية التي تستعمل للكي وثلاثة كراسي كبيرة حديد يجلس عليها المتهم وتوثق أطرافه الأربعة الى مساند الكرسي ويضغط رأسه بطوق حديدي يرتبط بأعلى الكرسي، ويسكب على رأسه ماء بارد في الشتاء وساخن في الصيف من شبكة المياه المثبتة في سقف الغرفة. والقسم الثالث: قاطع يتكون من ثلاث قاعات و50 غرفة انفرادية،
أما الرابع: فهو القاعة الرئيسة او كما تسمى بقاعة المدللين لأن ابواب غرفتها تفتح يومياً حوالي 5 ساعات، ويسمح لبعض المعتقلين فيها بقراءة بعض الصحف الحكومية، تستوعب هذه القاعة اكثر من 500 معتقل. سجن النساء يؤكد آخرون أن في نهاية قصر (النهاية) سجن آخر يحمل اسم (عزة) خاص بالنساء وفيه أكثر من 30 غرفة لأغتصاب السجينات. كان المغتصبون من السودان ومالي وكانوا يتقاضون رواتب كبيرة!. صورة قريبة صورة آخرى يوضحها النصراوي عن الكيفية التي كان يتعامل بها ارهابيو البعث مع المعتقلين فيقول: فور القبض على المتهم يوثق وتعصب عيناه، ويرسل الى قصر النهاية،
وفي الطريق يتحدثون مع المتهم بطرق مهذبة، وعند وصولهم الى مدخل القصر ينهالون عليه بالضرب المبرح بالعصي واعقاب البنادق والركل بالأرجل ثم يرسل الى غرفة التعذيب وتمارس بحقه اساليب التعذيب البربرية. النهاية وناظم كزار اصبح قصر (النهاية) وإسم ناظم كزار يثيران الرعب في قلوب العراقيين.
وصارت مفردات احواض التيزاب والمثرمة والاغتصاب تتردد بين الناس بشكل سري، لان كل شيء كان يدعو للرهبة والخوف، يقول الكاتب حسين الهنداوي: خلال الفترة ما بين تموز 1968 وتموز 1973، استعاد معتقل قصر النهاية سمعته المخيفة، بشكل أقوى من قبل، فلم يعد مقتصرا على استقبال الناشطين الشيوعيين والمثقفين اليساريين، بل اضيف اليهم رؤساء حكومات سابقون ووزراء ومسؤولون قوميون وشخصيات اجتماعية وعشائرية بارزة ومئات من كوادر واعضاء الأحزاب العروبية والاسلامية. ليبرز اسم «قصر النهاية» من جديد رمزا للجريمة والقتل والتعذيب والاغتصاب،
مقترنا هذه المرة باسماء ناظم كزار الذي اصبح مديراّ عاماّ للأمن العام وطه الجزراوي ممثلا عن «منظمة حنين» وهي جهاز اغتيالات خاص وسري برئاسة نائب رئيس مجلس قيادة الثورة آنذاك صدام حسين، فيما اشتهرت اسماء الجلادين عمار علوش وخالد طبرة ومحمد فاضل وزهير وسالم الشكرة وعلي رضا باوي وقتيبة الآلوسي والكثير غيرهم. وقد تحول المعتقل بين نهاية 1968 ومنتصف 1973 الى مصنع للجلادين والمجرمين اذ شهد تنظيم دورات لكوادر أمنية بعثية عراقية وغير عراقية، عن فنون انتزاع الاعترافات عبر التعذيب وطرق القتل البطيء
وبرز من المشرفين عليه محمد علي سعيد وفاضل البراك وفاضل الناهي. بسبب (موزة) كانت النهاية!! عام 1995 التقيت بشخص يعمل في مطار بغداد الدولي قال انه دخل سجن قصر النهاية، استغربت قوله خاصة ان ما يقصده هو مقر المخابرات، لكنه اصر على انه دخل في هذا المكان بتسميته قصر النهاية وكادت تكون نهايته فيه،
كان دخوله هذا السجن بسبب موزة! يقول: في اقسى أيام الحصار كانت تأتي عشرات العلب الكارتونية المغلفة المليئة بالموز من الباكستان لاسرة صدام حسين تحديدا، وحدث ان سرق احد العاملين في المطار موزة واكتشفوا ذلك فسألوا كل من يعمل هناك ولم يعترف أحد فأخذونا جميعا، وبدأ التعذيب ليعترف أحد عمال التنظيف انه أكل تلك الموزة، فتركونا وبقى هو في السجن ولم نره بعد ذلك، ويبدو ان نهايته كانت هناك!.
عذراً التعليقات مغلقة