النجف اليوم/
كتب/ هيثم العوادي
أرهقني هذا البحث، فمنذ أسبوع كامل، وأنا أحاول أن أكتب صفحة واحدة ولا أستطيع، إن عدم قناعتي ينبع من فرض هذا العنوان من قبل مشرفتي، لأنه لا يتناسب مع ما أريد كتابته، كل العناوين التي قدمتها تم رفضها، إن مجال العلوم الإسلامية صعب ومعقد، وأحتاج إلى حب الموضوع كي أبدع فيه.
في ذلك اليوم بعد أن شعرتُ بالتعب هومت عيناي بالنعاس؟ قالت لي أمي:
-زهراء اجلسي يا ابنتي وأكملي كتابتك؟
– أمي لا أستطيع فأنا متعبة جدا.
راقبتها وهي تتقدم إلى وسط الدار، وهالة الضوء تنير جنبات وجهها، أمسكتْ بالمنبر وسط المجلس، قبلته، ثم توجهت إلى نهاية المجلس، جلست واضعة يدها على رأسها، وأسندت الأخرى على ركبتيها، وأخذت تبكي بحرارة، بعدها وقفت، أمسكت بدفتر وقلم لتدون أسماء كل النساء اللاتي حضرن المجلس.
استغربت من هذا الأمر، وقلت في نفسي، ما الذي تفعله أمي؟
حاولت أن أكلمها لكنها لم ترد هذه المرة واكتفت بكتابة عبارة (ألف شهر) على السبورة التي أدون فيها ملحوظات البحث.
عادت أمي وسط الدار تتبع الضوء النازل لتصعد كمركبة فضائية بهدوء وسكينة، تحفها فراشات مشعة بألوان زاهية نحو السماء.
جلستُ مرعوبة وصرخت.. أمي.. أمي.. أمي، انتظري.
بكيت بحرقة على أمي التي فقدتها قبل سنتين، الحلم كان واقعيا إلى درجة بعيدة، ملامحها وحتى صوتها وجلستها وبكاؤها في المجالس الحسينية.
عاد إلي سكوني وفكرت في هذا المشهد الرهيب ورحت أربط الأحداث، لعلي اهتدي إلى تفسير.
مثلت أمي دور الزهراء-عليها السلام- في المجالس وكيف ترعاها بحضورها المقدس، فهذا ما نعتقده جميعا إنها حاضرة دائما بيننا حين نستلهم عبق العبرة وشعورالعَبرة، ونور التأسي بهدى أهل البيت-عليهم السلام-وننهل من شلال الحكمة المنهمر من منبرهم.. بعدها كتبت لي عبارة (ألف شهر) لكن ما علاقة العبارة بالزهراء-عليها السلام-؟.
طرقت رأسي أسئلة عدة، لكنني لم أهتدِ إلى تفسير لها، عيناي التعبة من السهر والقراءة فارقها الرقاد، فما كان مني إلا أن استعذت بالله من الشيطان الرجيم، سبغت وضوئي وصليت صلاة الليل، بعدها بقليل لاحت بشائر الفجر صليت صلاة الصبح، وأنا أتشوق للقاء مشرفتي على البحث لعلي أجد التفسير المناسب.
وصلت إلى الكلية بمشقة كبيرة، سلمت على مشرفتي ويعلو ملامحي ارتباك كبير، ردت السلام وقالت:
-ما بالك يا زهراء؟ اهدئي يا ابنتي، اشرحي لي ما حصل.
وصفت لها مشهد يوم أمس بكل تفاصيله فقالت:
-المسألة بسيطة، لقد أشارت لك أمك إلى ليلة القدر في عبارة (ألف شهر).
-ما علاقة الزهراء-عليها السلام- بليلة القدر؟
-هذا ما سوف تكتشفينه، أعتقد أنها تريد أن يكون بحثك في هذا الموضوع، لذلك أنا أوافق على تبديل العنوان، قبل أن تطلبي وأنهت حديثها بابتسامة جميلة.
بادلتها الابتسامة وشكرتها كثيرا، تركتها وأنا أقول في نفسي، نعم فعلا إنها إشارة، بل هو ما كانت تريده أمي، لأنها كانت مرتبطة ومتعلقة بسيدة نساء العالمين.
حركت عجلة عربتي إلى الأمام، التي أصبحت رفيقتي منذ وفاة أمي، حين فقدت القدرة على المشي من هول الصدمة، ولم تفارقني منذ أن قال الأطباء إن مرضك نفسي ولا يوجد حل عضوي لعلاجك، تجاهلت كل ما قالوه وسلمت أمري إلى الواحد القهار.
بطريق عودتي فكرت بحل لغز البحث، لاحت لي أفكار جميلة وجديدة توقفت قليلا لأدونها في ملاحظات الموبايل.
بدأت بتحضير مصادري، وأعدت البحث من جديد، رتبت أفكاري ووضعت مشكلة البحث والمقدمة، والفرضيات، صحيح أنه بحث بكالوريوس لكن علي الاهتمام به لأنه سيكون بمثابة دراسة جديدة، حضرت سبورتي وأنا أمسح بيدي على مكان الكلمة التي كتبتها أمي في الحلم لأنهل من فيضها، وأستلهم القوة والقدرة على الإنجاز، وبدأت بالتحليل:
(-كانت ليلة القدر سر من أسرار الله كذلك فاطمة الزهراء -عليها السلام-.
– لقد جهل فضل ليلة القدر وتعدد أيامها، كما جهل الناس فضل فاطمة -عليها السلام- وتعدد مكان قبرها لعلو مرتبتها.
– ليلة القدر مباركة ومن أسماء الزهراء -عليها السلام -المباركة.
– ليلة القدر ليلة سعادة وفاطمة الزهراء- عليها السلام- سر السعادة.
-وليلة القدر هي خير من ألف شهر، وتسبيح الزهراء -عليها السلام- يجعل كلّ صلاة بألف صلاة وبمحبّتها تتضاعف الأعمال).
أخرجت عشرة عناوين للتشابه إضافة إلى ماذكرته، مع شرح واف بالاعتماد على المصادر، والأحاديث الشريفة والسيرة العطرة لسيدة نساء العالمين.
أكملت البحث وجاءت ساعة الحقيقة، في يوم المناقشة اعتليت منصة الباحث أمام اللجنة، كنت أجيب عن كل أسئلتهم بسلاسة وأدافع عن بحثي بالأدلة التي قرأتها وحفظتها، عند إعلان النتيجة من قبل اللجنة كان على الباحث أن يقف، لكن من أين آتي بتلك القدرة، من بين حشود الحاضرين في القاعة تقدمت إلي امرأة ليست بالطويلة ولا القصيرة كانت تنظر إلي من وراء خمارها، ماجذبني إليها هو ذلك الشعاع الذي يضيء المكان، وتلك الهالة التي تحيط بها، شقت الصفوف، بل اخترقتها، وأعتقد أن لا أحد يراها غيري، وصلت إلي، حاولت الوقوف لتحيتها لكنني لم أستطع، فأعطتني يديها ووقفت مرة أخرى على قدمي، وكانت أمي خلفها تضحك ودموع الفرحة تملأ وجنتيها، كان الحاضرون يصلون على النبي وآله حين وقفت، قالت لي كلمة أخيرة تألمت منها كادت أن تسقطني لولا أنها أمسكتني:
-أحسنت ببحثك ياسميتي، لكن لم تذكري تشابها مهما جدا هو أن محاجر المحبين تنزف دمعا في ليلة القدر كما نزفت ضلوعي دما عند الباب.
عذراً التعليقات مغلقة